الحرية والمسئولية

لا أظن أنه في وسع أحد أن ينكر حجم التقدم الضخم الذي طرأ في مصر والعالم العربي علي حرية الكلمة والتعبير‏,‏ ووسع من نطاقهما إلي حد سقطت معه معظم الخطوط الحمراء‏,‏
وتداعت أغلب الأسوار التي أبقت علي كثير من القضايا والمشكلات في أقبية الحكم امتنع فحصها ونقاشها لعقود طويلة بدعوي أنها تدخل ضمن أسرار الدولة ومصالحها العليا‏,‏ يحتكر حق التعبير عنها فئة جد محدودة‏,‏ وعلي الباقين أن يمتنعوا انتظارا لإشارة خضراء‏.‏
والواضح أن الممارسات العملية لحرية التعبير علي أرض الواقع‏,‏ كما نراها في الصحف علي اختلاف صور ملكيتها والقنوات الفضائية التي يقع أغلبها في نطاق الملكية الخاصة‏,‏ سبقت كثيرا الإطار القانوني الذي يحكم علاقة الصحافة بالسلطة والمجتمع المدني‏,‏ الذي لايزال ينطوي علي ترسانة من القوانين الصعبة تفرط في فرض العقوبات في جرائم الرأي‏,‏ وتبقي علي عقوبة الحبس التي لم تعد ضمن العقوبات المقيدة للحريات في معظم دول العالم‏.‏
وأظن أنه بات ضروريا تغيير البنية القانونية الراهنة بما يوفر مناخا من الطمأنينة لأصحاب الرأي والكلمة يساعد علي اكتمال مسيرة الديمقراطية‏,‏ شريطة أن تلتزم حرية التعبير مواثيق شرف المهنة التي تحمي سرائر الناس وتصون مصداقية المهنة من مغامرات نفر محدود يستبيح أي شيء وكل شيء لتحقيق مصالح ملتبسة لا شأن لها بالصالح العام‏..‏ وبرغم الانتقادات الكثيرة التي تتهم نقابات الصحفيين واتحاداتهم في العالم العربي بأنهم يسعون إلي حرية بلا ضوابط لايقترن بها مسئولية أخلاقية واضحة ومحددة‏,‏ فإن الحل الصحيح لهذه المشكلة أن تجلس كل الأطراف المهنية إلي مائدة حوار جاد متكافئ‏,‏ يعيد النظر في البنية القانونية التي تحكم عمل الصحافة بما يحافظ علي حرية التعبير ويضمن التطبيق الأخلاقي الصحيح لمواثيق شرف المهنة‏,‏ ويعترف ابتداء بأن حرية التعبير والرأي هما أم كل الحريات العامة والشخصية وجزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان‏,‏ لا يصلح معها نذر التهديد والوعيد التي تطلقها أبواق درجت علي نفاق الحكم‏,‏ تدعو إلي تكميم الأفواه والحجر علي كل صاحب رأي واطلاق النار علي المتظاهرين إن أمكن‏!‏
وما ينبغي أن يعرفه هؤلاء‏,‏ أن العالم قد تغير مع سقوط حواجز الجغرافيا وانفتاح سماواته المغلقة‏,‏ وأن الديمقراطية المكتملة آتية لا ريب فيها‏,‏ وأن ما كان ممكنا بالأمس أصبح متعذرا اليوم‏,‏ ولا بديل عن أن تكون مصر جزءا من هذا العالم المتغير‏.‏


الاهرام الأحد 18 من جمادى الاولى 1431 هــ 2 مايو 2010 السنة 134 العدد 45072